الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (30- 35): {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}يقول الحق جلّ جلاله: واذكر {يوم يقول لجهنم هل امتلأتِ}؟ وقرأ غير نافع وشعبة: بنون العظمة. فالعامل في الظرف: اذكر أو: {بظلاّم} أو محذوف مؤخر، أي: يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال، {وتقول هل من مزيد}؟ أي: من زيادة، مصدر كالمجيد، أو: مفعول، كالمنيع، أي: هل بقي ما يزاد، يعني: أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها يُطرح فيها الناس والجِنة فوجاً بعد فوج حتى تملأ {وتقول} بعد امتلائها: {هل من مزيد} أي: هل بقي فيَّ موضع لم يمتلئ؟! يعني: قد امتلأت. أو: أنها من السعة يدخل مَن يدخلها ولم تمتلئ فتطلب المزيد، وهذا أولى.قال ابن جزي: واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة، أو مجازاً بلسان الحال، والأظهر: أنه حقيقة، وذلك على الله يسير، ومعنى قولها: هل من مزيد: أنها تطلب الزيادة، وكانت لم تمتلئ، وقيل: معناه: لا مزيد، أي: ليس عندي موضع للزيادة، فهي على هذا قد امتلأت، والأول أرجح، لما ورد في الحديث: «لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضعَ الجبارُ فيها قدمه، فتنزوي، وتقول: قَطْ قَطْ» وفي هذا الحديث كلام ليس هذا موضعه. اهـ.قال في الحاشية: ووضع القدم مَثَلٌ للردع والقمع، أي: يأتيها أمر يكفها عن طلب المزيد. وقال ابن حجر: واختلف في المراد بالقدم، فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة. ثم قال: وقال كثير من أهل العلم بتأويل ذلك، فقيل: المراد إذلال جهنم، فإنها إذا بلغت في الطغيان، وطلبت المزيد، أذلّها الله، كوضعها تحت القدم، وليس المراد حقيقة القدم، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء ظرفاً للأمثال، ولا تريد أعيانها كقولهم: رغم أنفه، وسقط في يده. اهـ. قلت: مَن دخل بحار الأحدية لم يصعب عليه حلّ أمثال هذه الشُبّه، فإن تجليات الحق لا تنحصر، فيتجلّى سبحانه كيف شاء، وبما شاء، ولا حضر ولا تحييز، ولا يفهم هذه إلا أهل الفناء والبقاء بصحبة الرجال.ثم قال تعالى: {وأُزلفتْ الجنةُ للمتقين} وهو شروع في بيان أحوال المؤمنين بعد النفخ ومجيء النفوس إلى موقف الحساب. وتقديم الكفرة في أمثال هذا؛ إما لتقديم الترهيب على الترغيب، أو لكثرة أهل الكفر، فإن المؤمنين بينهم كالشعرة البيضاء في جلدٍ أسود، أي: قربت الجنة للمتقين الكفر والمعاصي، بحيث يشاهدونها من الموقف، ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن، فيبتهجون بأنهم محشورون إليها، فائزون بها، ويأتي في الإشارة بقية بيان، إن شاء الله. وقوله: {غيرَ بعيدٍ} تأكيد للإزلاف، أي: مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر، الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، أو لتأوّل الجنة بالبستان.{هذا ما تُوعدون} أي: هذا الثواب، أو الإزلاف، ما كنتم توعدون به في الدنيا، وهو حاصل {لكل أواب} أي: رجّاع إلى الله تعالى، {حفيظٍ} لأوامر الله، أو لما استودعه الله من حقوقه، {مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغيب}: بدل من {أواب} أو مبتدأ، خبره: أدخلوها، على تقدير: يقال لهم: ادخلوها؛ لأن {من} في معنى الجمع، والخشية: انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة أو التقصير أو الهيبة. وقوله تعالى: {بالغيب} حال من فاعل {خشي}، أو من مفعوله، أو صفة لمصدره، أي: خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب عنه، وخشي الرحمن وهو غائب عن الأعين في رداء الكبرياء، لا تراه الأعين الحسية الحادثة، والتعرُّض لعنوان الرحمن للثناء البليغ على الخاشي، حيث خشيَه مع علمه بسعة رحمته، فلم يصدهم علمهم بسعة رحمته عن خوفه تعالى، أو: للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته. {وجاء بقلب منيب} راجع إلى الله، أو سريرةٍ مَرضيةٍ، وعقيدةٍ صحيحة.يُقال لهم: {ادخلوها بسلامٍ} أي: سالمين من زوال النعم وحلول النقم، أو: ملتبسين بسلام من الله تعالى وملائكته عليكم، {ذلك يومُ الخلود} الإشارة إلى الزمان الممتد الواقع في بعض منه ما ذكر من الأحوال، أي: نهاية ذلك اليوم هو يوم الخلود، الذي لا انتهاء له، {لهم ما يشاؤون فيها} من فنون المطالب ومنتهى الرغائب {ولدينا مزيدٌ} هو النظر إلى وجهه الكريم، على قدر حضورهم اليوم، أو: هو ما لا يخطر ببالهم، ولا يندرج تحت مشيئتهم من الكرامات، التي لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: إن السحاب تمر باهل الجنة فتمطر عليهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال تعالى: {ولدينا مزيد} قلت: مزيد كل واحد على قدر همته وشهوته. والله تعالى أعلم.الإشارة: يوم يقول لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد، كذلك النفس، نار شهوّاتها مشتعلة كلما أعطيتها شيئاً من حظوظها طلب المزيد، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب، وفي الحديث: «اثنان لا يشبعان: طالب الدنيا وطالب علم، طالب الدنيا يزداد من الله بُعداً، وطالب العلم يزداد من الله رضاً وقُرباً» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.واعلم أن الروح إذا عشقت شيئاً فإن كان من الدنيا يُسمى حرصاً، وإن كان في جانب الحق سُمي محبة وشوقاً، وفي الحقيقة ما هي إلا محبة واحدة، إلا أنها لما تاهت انقلبت محبتها للفروقات الحسية، وغابت عن المعاني الأزلية، وكلما زاد في الحرص نقص في المحبة، وما نقص من الحرص زاد في المحبة. ويقال: كلما زادت محبة الحس نقصت المعنى، وبالعكس، وإذا اشتعلت نار المحبة فلا تسكن بما يلقى فيها من الأمور الحسية، كانت حظوظاً أو حقوقاً، بل كلما ألقي فيها تقول: هل من مزيد، حتى يضع الجبار قدمه، وهو قذف نور معرفته في القلب، فحينئذ يحصل الفناء وتقول: قط قط.ثم أخبر عن حال المؤمنين بقوله: {وأُزلفت الجنة للمتقين} أي: قربت جنة المعارف إلى قلوب خواص المتقين، الذي اتقوا ما سوى الله، فقربت منهم، ودَخَلوها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قربت إليهم الجنة الحسية في المحشر، فيركبون في قصورها وغرفها، وتطير بهم إلى الجنة، فلا يسحون بالصراط ولا بالنار، وفيهم قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] والناس على ثلاثة أصناف: قوم يُحشرون إلى الجنة مشاة، وهم الذين قال الله فيهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر: 73] وهم عوام المؤمنين، وقوم يُحشرون إلى الجنة ركباناً على طاعتهم، المصورة لهم على صورة المراكب، وهؤلاء الخواص من العباد والزهّاد والعلماء والصالحين، وأما خواص الخواص، وهم العارفون ومَن تعلق بهم، فهم الذين قال الله فيهم: {وأزلفت الجنة للمتقين} تُقرب منهم، فيركبون فيها، ويسرحون إلى الجنة. انظر القشيري.وقوله تعالى: {هذا ما توعدون} الإشارة إلى مقعد صدق، ولو كان إلى الجنة لقال هذه. قال القشيري. ثم وصف أهل هذا المقام بقوله: {لكل أواب حفيظ} أي: راجع إلى الله في جميع أموره، لا يعرف غيره، ولا يلتجئ إلا إليه، حفيظ لأنفاسه مع الله، لا يصرفها إلا في طلب الله، مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغيب، أي: بنور الغيب يشاهد شواهد الحق، فيخشى بُعده أو حجبه. قال القشيري: والخشية تكون مقرونة بالأُنس، ولذلك لم يقل: مَن خشي الجبار. ثم قال: والخشية من الرحمن خشية الفراق، ويقال: هو مقتضى علمه بأنه يفعل ما يشاء، لا يُسأل عما يفعل، ويقال: الخشية ألطف من الخوف، فكأنها قريبة من الهيبة. ه {وجاء بقلب منيب} مقبل على الله بكليته، معرض عما سواه، {ادخلوها} جنة المعارف {بسلام} من العيوب، آمنين من السلب والرجوع، وهذا قوله: {ذلك يوم الخلود} فيها، لهم ما يشاؤون من فنون المكاشفات، ولذيذ المشاهدات، ولدينا مزيد، زيادة ترقي أبداً سرمداً، جعلنا الله من هذا القبيل في الرعيل الأول، آمين..تفسير الآيات (36- 38): {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)}يقول الحق جلّ جلاله: {وكم أهلكنا قبلهم} قبل قومك {من قَرْنٍ} من القرون الذين كذَّبوا رسلهم {هم أشدُّ منهم} من قومك {بطشاً} قوة وسطوة، {فنَقَّبوا في البلاد} أي: خرّبوا وطافوا وتصرّفوا في أقطارها، وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذرا من الموت {هل} وجدوا {من مَحيص} أي: مهرب منها؟ بل لَحِقَتهم ودقت أعناقهم، أو: هل وجدوا من مهرب من أمر الله وقضائه؟ وأصل التنقيب والنقب: البحث والطلب، قال امرؤ القيس:ودخلت الفاء للتسبُّب عن قوله: {هم أشد منهم بطشاً} أي: شدة بطشهم، أي: قدرتهم على التنقيب في البلاد، ويجوز أن يعود الضمير إلى أهل مكة، أي: ساروا في أسفارهم ومسايرهم في بلد القرون، فهل روأوا لهم محيصاً حتى يُؤملوا مثله أنفسهم؟ ويؤيدهم قراءة مَن قرأ {فنَقِّبوا} على صيغة الأمر.{إِنَّ في ذلك} أي: فيما ذكر من قصصهم، أو: فيما ذكر في السورة {لَذِكرى} لتذكرة وعظة {لمَن كان له قلبٌ} سليم واعٍ يُدرك كنه ما يشاهده من الأمور، ويتفكّر فيها، ليعلم أن مدار دمارهم هو الكفر، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير، {أو أَلقى السمعَ} أي: أصغى بقلبه إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم، فإن مَن فعله يقف على كنه الأمر، فينزجر عما يؤدي إليه من الكفر والمعاصي، يقال: ألق إليَّ سمعَك، أي: استمع، ف {أو} لمنع الخلو، لا لمنع الجمع، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب عما ذكر من الصفات، للإذان بأن مَن عَرَى قلبه عنهما كمَن لا قلب له أصلاً. وقوله تعالى: {وهو شهيد} حال، أي: والحال أنه حاضر القلب لا يغفل أو: شاهد على ما يقرأ من كتاب الله.{ولقد خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما} من أصناف المخلوقات، وهذا أيضاً احتجاج على القدرة على البعث بما هو أكبر، كقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] وقوله تعالى: {في ستة أيام} إنما خلقها في تلك المدة تعليماً لخلقه التؤدة، وإلا فهو قادر على أن يخلقها في لمحة، {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، ويحتمل أن هذا في عالم الأمر، وأما عالم الخلق فاقتضت الحكمة خلقه بالتدريج، وله الخلق والأمر، ثم قال تعالى: {وما مسَّنا من لُغوبٍ} من إعياء ولا تعب في الجملة، وهذا رد على جهلة اليهود، أنه تعالى بدأ العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، تعالى عما يقولون عُلوّاً كبيراً.الإشارة: كثيراً ما أهلك اللّهُ من النفوس المتمردة في القرون الماضية، زجراً لمَن يأتي بعدهم، ففي ذلك ذِكرى لمَن كان له قلب سليم من تعلُّقات الكونين.قال القشيري: فالقلوب أربعة: قلب فاسد: وهو الكافر، وقلب مقفول: وهو قلب المنافق، وقلب مطمئن: وهو قلب المؤمن، وقلب سليم: وهو قلب المحبين والمحبوبين، الذي هو مرآة صفات جمال الله وجلاله، كما قال تعالى: «لا يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن». اهـ. وقال الشبلي: لِمن كان له قلب حاضر مع الله، لا يغفل عنه طرفة عين. وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان: قلب احتشى بأشغال الدنيا، حتى إذا حضر أمرٌ من أمور الآخرة لم يدرِ ما يصنع، وقلب احتشى بالله وشهوده، فإذا حضر أمر من أمور الكونين لم يدرِ ما يصنع، غائب عن الكونين بشهود المكوِّن. وقال القتاد: لمن كان له قلب لا يتلقّب عن الله في السراء والضراء. اهـ. {أو ألقى السمع وهو شهيد} أي: يشهد ما مِن الله إلى الله، أو: يشهد أسرار الذات. قال القشيري: يعني مَن لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع الله وهو حاضر مع الله، فيعتبر بما يشير إليه الله في إظهار اللطف أو القهر. اهـ. {ولقد خلقنا السماوات} أي: سماوات الأرواح، وأرض الأشباح، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار، وسر الأسرار، في ستة أيام، أي: ستة أنواع من المخلوقات، وهي محصورة فيما ذكرناه من الأرواح، والأشباح، والنفوس، والقلوب، والأسرار، وسر الأسرار، فلا مخلوق إلا وهو داخل في جملتها، لا يخرج عنها، {وما مسّنا من لُغوب} لأن أمرنا بين الكاف والنون. .تفسير الآيات (39- 45): {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}يقول الحق جلّ جلاله: {فاصبرْ على ما يقولون} أي: ما يقوله الشركون في شأن البعث من الأباطيل، فإنَّ الله قادر على بعثهم والانتقام منهم، أو: يقولونه في جانبك من النقص والتكذيب، أو: ما تقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه، {وسبِّح بحمد ربك} أي: اصبر على ما تسمع واشتغل بالله عنهم، فسبِّح، أي: نزِّه ربك عن العجز عما يمكن، وعن وصفه تعالى بما يوجب التشبيه، حامداً له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق والرشاد، {قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وهما وقت الفجر والعصر، وفضلهما مشهور.{ومن الليل فسبِّحه} أي: وسبّشحه في بعض الليل {وأدبارَ السجود} أي: أعقاب الصلوات، جمع: دبر، ومَن قرأ بالكسر، فمصدر، من: أدبرت الصلاة: انقضت، ومعناه: وقت انقضاء الصلاة، وقيل: المراد بالتسبيح: الصلوات الخمس، فالمراد بما قبل الطلوع: صلاة الفجر، وبما قبل الغروب: الظهر والعصر، وبما من الليل: المغرب والعشاء والتهجُّد، وبأدبار السجود: النوافل بعد المكتوبات.{واسْتَمِع} أي: لِما يُوحى إليك من أحوال القيامة، وفيه تهويل وتفظيع للمخبر به، {يوم يُنادي المنادِ} أي: إسرافيل عليه السلام، فيقول: أيتها العظام البالية، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة؛ إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، وقيل: إسرافيل ينفخ، وجبريل ينادي بالمحشر، {من مكانٍ قريبٍ} بحيث يصل نداؤه إلى الكل، على سواء، وقيل: من حجرة بيت المقدس، وهو أقرب مكان من الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً، وهي وسط الأرض، وقيل: من تحت أقدامهم، وقيل: من منابت شعورهم، فيسمع من كل شعرة. ويوم منصوب بما دلّ عليه {يوم الخروج} أي: يوم ينادِ المنادِ يخرجون من القبور، فيوقف على {واستمع} وقيل: تقديره: واستمع حديث يوم ينادِ المنادي.و{يوم يسمعون الصحيةَ}: بدل من {يوم ينادِ} أي: واستمع يوم ينادِ المنادي، وذلك اليوم هو يوم يسمعون الصيحة، وهي النفخة الثانية. و{بالحق}: متعلق بالصيحة، أو: حال، أي: ملتبسة بالحق، وهو البعث والحشر للجزاء، {ذلك يومُ الخروجِ} من القبور.{إِنّا نحن نُحيي} الخلق {ونُميتُ} أي: نُميتهم في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد، {وإِلينا المصير} أي: مصيرهم إلينا لا إلى غيرنا. وذلك {يومَ تشقق} أصله: تتشقق، فأدغم، وقرأ الكوفيون والبصري بالتخفيف، بحذف إحدى التاءين، أي: تتصدع، {الأرضُ عنهم سِراعاً} فيخرج المؤمنون من صدوعها مسرعين، {ذلك حشرٌ} أي: بعث {علينا يسيرٌ} هَيْنٌ، وهو معادل لقول الكفرة: {ذلك رجع بعيد}، وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به تعالى.{نحن أعلم بما يقولون} من نفي البعث وتكذيب الآيات، وغير ذلك مما لا خير فيه، وهو تهديد لهم، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، {وما أنت عليهم بجبَّار} أي: ما أنت بمسلَّط عليهم، إنما أنت داع، كقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر} [الغاشية: 22] من: جبره على الأمر: قهره، أي: ما أنت بوالٍ عليهم تجبرهم على الإيمان، وهذا قبل الأمر بالقتال، {فذَكِّر بالقرآن من يخاف وعيدِ} لأنه هو الذي يتأثر بالوعظ، كقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] وأما مَن عداهم، فنحن نفعل بهم ما توجبه أقوالهم، وتستدعيه أعمالهم من أنواع العقاب وفنون العذاب.الإشارة: فاصبر أيها المُتوجِّه على ما تسمع من الأذى، وغب عن ذلك بذكر ربك قبل طلوع شمس البسط، وقبل غروبها، أي: اشتغل بالله في القبض والبسط، أو: قبل طلوع شمس المعرفة، في حال السير، وقبل الغروب حين تطلع، ومن ليل القبض أو القطيعة فسبِّح حتى يطلع نهار البسط أو المعرفة، وأدبار السجود، أي: عقب سجود القلب في الحضرة، فلا يرفع رأسه أبداً، واستمع يوم ينادِ المنادي، وهي الهواتف الغيبية، والواردات الإلهية، والإلهامات الصادقة، من مكان قريب، هو القلب، يوم يسمعون الصيحة، أي: تسمع النفوس صيحة الداعي إلى الحق بالحق، فتجيب وتخضع إن سبقت لها العناية، ذلك يوم الخروج، خروج العوائد والشهوات من القلب، فتحيي الروح، وتُبعث بعد موتها بالغفلة والجهل، بإذن الله، إنا نحن نُحيي نفوساً بمعرفتنا، ونُميت نفوساً بقهريتنا، وإلينا المصير، أي: الرجوع إنما هو إلينا، فمَن رجع إلينا اختياراً أكرمناه ونعّمناه، وفي حضرة القدس أسكنّاه، ومَن رجع قهراً بالموت عاتبناه أو سامحناه، وفي مقام البُعد أقمناه.{يوم تشقق الأرضُ عنهم}: أرض الحشر في حق العامة، وأرض الوجود في حق الخاصة، أي: يذهب حس الكائنات، وتضمحل الرسوم، وتُبدل الأرض والسموات، ذلك حشر علينا يسير، أي: جمعكم إلينا، بإفناء وجودكم، وإبقائكم بوجودنا، يسير على قدرتنا، وجذبِ عنايتنا. ويُقال لكل داع إلى الله، في كل زمان، حين يُدبر الناس عنه، وينالون منه: نحن أعلم بما يقولون، وما أنت عليهم بجبّار، إنما أنت داع: خليفة الرسول، فذكِّر بالقرآن، وادع إلى الله مَن يخاف وعيدِ؛ إذ هو الذي يتأثر بالوعظ والتذكير، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلمّ.
|